الموالي في التاريخ الإسلامي
"نظام الكفالة" الذي تطالب المنظمات الدوليةُ البلدانَ الخليجية بإلغائه، كمنظم للعلاقة بين الموظف أو العامل من جانب وصاحب العمل من جانب آخر، نظام بالغ القدم في الحياة الاقتصادية والاجتماعية العربية، وبخاصة في منطقة الخليج والجزيرة العربية!
في دراسة للباحثة د. إلهام أحمد البابطين عن "الحياة الاجتماعية في مكة" خلال القرن الهجري الأول، تقول إن الأحرار من "الموالي" الذين لم يجر عليهم الرق، "كان معظمهم قد قدموا إلى مكة من أجل العمل مثل بعض التجار والحرفيين. ويجب عليهم الحصول على الجوار (العهد أو الأمان) من أحد سكان المدينة، لدخولها والإقامة فيها بأمان لحين انتهاء عملهم. وهؤلاء الوافدون إلى مكة قدموا من مختلف المناطق فمنهم من قدم من المناطق القريبة لمكة، ومنهم من قدم من يثرب أو الشام، ومنهم من قدم من اليمن و الحبشة". وتضيف د. البابطين، إن بعض الموالي حقق في المجتمع المكي قبل الإسلام نجاحاً كبيرا "عن طريق مزاولتهم التجارة وجمعوا ثروات كبيرة، أو مارسوا حرفاً تدر دخلاً وفيراً. ونتيجة لأوضاعهم الاقتصادية الممتازة، فقد ارتفعت مكانتهم الاجتماعية".
ويُظهر المؤرخ جرجي زيدان في "تاريخ التمدن الإسلامي" حجم هذه "العمالة الوافدة" أو المصدَّرة. فيقول في الجزء الرابع، "أفضَتْ الخلافةُ إلى الأمويين في أواسط القرن الأول للهجرة، وعدد الموالي آخذ في الزيادة بموالاة الفتح وتكاثر الرقيق بالأسر أو الإهداء. لأن العمال -أي الولاة والحكام- كثيراً ما كانوا يبعثون بمئات أو آلاف من الرقيق الأبيض والأسود إلى بلاط الخليفة هدية أو بدلاً من الخراج أو نحوه، والخليفة يُفرِّق ذلك في أهل بطانته، وهؤلاء يفرقونه فيمن حولهم أو يبيعونه فينتقل إلى الناس على اختلاف طبقاتهم، فمن أنجب من أولئك الأرقاء أو أُعتق لسبب من الأسباب صار مولى، وذلك كثير وعادي يومئذ، غير الذين كانوا يدخلون في الولاء بالعقد وغيره. فتزايد عدد الموالي في عصر الأمويين زيادة عظيمة، وصاروا يتقربون من مواليهم بما يحتاجون إليه من شؤونهم، فاستخدمهم العرب في مصالحهم الصناعية أو الزراعية أو الدينية أو العلمية، واشتغلوا هم بالرياسة والسياسة، ولذلك كان أكثر القراء والشعراء والمغنيين والكتّاب والحُجَّاب من الموالي". وعن نتائج هذا النشاط المالي، يقول زيدان، "قد يثري الموالى فيبتاع العبيد ويعتقهم فيصيرون من مواليهم، وهؤلاء إذا استطاع أحدهم أو بعض أولاده اقتناء العبيد واعتاقهم صاروا مواليه".
وكان للموالي مجال آخر امتزجوا فيه بالعرب، فقد كان في كل قبيلة، يقول "زيدان"، عدد كبير منهم، ربما زاد على عدد أفراد القبيلة، فإذا خرجت للحرب خرجوا معها، وحاربوا في سبيل نصرتها. "واختلف عدد الموالي بالنسبة إلى مواليهم باختلاف العصور. ففي أيام "علي"، كانت نسبة الموالي الأحرار ممن يخرجون إلى الحرب كنسبة واحد إلى خمسة، ثم تكاثر الموالي في عصر الأمويين. فلما تكاثر الموالي ورأوا ما كان فيه الأمويون من التعصب للعرب على سواهم، ولا سيما الموالي، حتى كانوا يستخدمونهم في الحروب مشاة ولا يعطونهم عطاء ولا شيئاً من الغنائم أو الفيء، عظم ذلك عليهم، ورأوا في نفوسهم قوة فنفرت قلوبهم من بني أمية، وأصبحوا عوناً لكل من خلع الطاعة أو طلب الخلافة من العلويين أو الخوارج، فكل من قام لمحاربة الأمويين استعان عليهم بالموالي والعبيد".
ويرى "جرجي زيدان" أن حال الموالي في الدولة الأموية لم يكن دائماً على هذا المنوال. "فالمولى إذا آنس من مولاه رضاءً ومحاسنة، استهلك في نصرته، وكان لسيِّدهِ ثقة فيه، حتى خلفاء بني أمية، فقد كانوا يقربون جماعة من مواليهم، يعهدون إليهم بمهامهم ويرفعون منزلتهم ويستشيرونهم في أمورهم، والموالي يخلصون لهم ويستميتون في الدفاع عنهم، كما كان موالي بني هاشم يستميتون في نصرة مواليهم. وقد يكون المولى من أصل رفيع، أو يرتقي إلى أعلى المراتب، حتى في أيام بني أمية رغم اضطهادهم وتعصبهم عليهم".
وينبه د. حسين مؤنس في هامش الكتاب نفسه إلى أن سياسة الأمويين مع الموالي "لا زالت في حاجة إلى دراسة، فقد بالغ المؤرخون في القول بظلمهم واحتقارهم إياهم مبالغة ينكرها الواقع، فقد كان الكثيرون من رجال بني أمية من الموالي، ومثال ذلك موسى بن نصير وطارق بن زياد، وكان لكل خليفة من خلفاء بني أمية طائفة من مواليه تخدمه وتخلص له. وعندما زالت دولة بني أمية في المشرق كان مواليهم هم الذين أقاموا دولتهم في الأندلس بسواعدهم وأخلصوا لهم إخلاصاً عظيماً. وكان بنو أمية الأندلسيون يقدِّرون مواليهم ويثقون فيهم أكثر مما يثقون في رجالهم من العرب".
وكان من القضايا التي يثيرها وجود الموالي وتعايشهم مع عرب الخليج والجزيرة وفي الشام والعراق، زواج الموالي بالعربيات. فالتأثير القبلي كان قوياً على العرب قبل الإسلام ثم عاد لقوته بعده في بعض المجالات. كما كان الفرس، فيما ينقل المسعودي، يمنعون زواج العرب ببناتهم قبل الإسلام. ويقول المؤرخ زيدان إن الأمويين منعوا زواج الموالي بالعربيات، فإذا تجرأ مولى على الزواج بعربية وبلغ أمره إلى الوالي طلقها منه، وقد يُعاقب المولى بالجلد. وكان المنع شائعاً بين العرب قبل الإسلام، وظل العرب يستنكفون منه رغم الحديث النبوي "مولى القوم منهم".
ويبدو أن علاقة المولى والسيد كانت مهيمنة في ميدان العلاقات الاجتماعية، فالمولى لم يكن يخطب امرأة لنفسه ولا يزوج ابنته لرجل، ما لم يستشر مولاه، فإذا أحب رجل أن يخطب فتاة من بنات الموالي لا يذهب إلى أبيها ولا إلى أخيها، وإنما يخطبها من مواليها، كما جاء في العقد الفريد للمسعودي. فإن رضي مولاها زوجت وإلا فلا. "وإن زوجها الأب أو الأخ بغير رأي مواليه فسخ النكاح، وإن كان دخل بها عُدّ ذلك سفاحاً".
ولم يقف تأثير وجود الموالي أو غير العرب في الأوساط السياسية والاجتماعية والثقافية عند هذا الحد، وبخاصة بعد أن تعاظم عددهم. ومن الذين رسموا ببراعة تأثيرهم المؤرخ أحمد أمين، فيقول: "الحق أن الامتزاج كان قوياً شديداً، وأن الموالي وأشباههم كان لهم أثر في كل مرافق الحياة، وأنه كانت هنالك حروب في المسائل الاجتماعية ولكن لم يُعْنَ المؤرخون بتفصيلها، وهي أولى بالعناية، فقد كانت حرب بين الإسلام والديانات الأخرى، وكانت حرب بين اللغة العربية واللغات الأخرى، وكانت حرب بين الآمال العربية وآمال الأمم الأخرى، كانت حرب بين النظم الاجتماعية العربية البسيطة، وبين النظم الاجتماعية الفارسية والرومية، وأصبحت المملكة الإسلامية مجالاً فسيحاً لهذه الحروب تتنازع فيها الآمال. ففرس يحنون إلى مملكتهم القديمة، ويعتقدون أنهم أرقى من العرب، وروم كذلك، والمغرب ومصر يودان الاستقلال. كما أن النظم السياسية فيها متضاربة: فرس لهم نظام خاص، وروم لهم نظام مغاير، وقانون روماني كان يسود المستعمرات اليونانية -في بلاد الشام- وقانون فارسي كان يسود المملكة الفارسية، وإسلام يُستمد منه قانون يوافقهما أحياناً ويخالفهما أحياناً، وفرس مجوس ظلوا مجوساً، وفرس أسلموا، وروم ونصارى، وروم أسلموا، ومصريون نصارى، ومصريون أسلموا، ويهود في هذه البلاد ظلوا يهوداً، ويهود أسلموا، ولغة عربية وفارسية وقبطية ويونانية وعبرية.. كل هذه النزعات واللهجات كانت في حروب مستمرة، وكانت المملكة الإسلامية كلها هي موطن القتال، ولم يصلنا مع الأسف، من وقائعها إلا النزر اليسير. فلم تعد الأمة الإسلامية أمة عربية، لغتها واحدة، ودينها واحد وخيالها واحد، كما كان الشأن في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، بل كانت الأمة الإسلامية جملة أمم، وجملة نزاعات، وجملة لغات تتحارب. وكانت الحرب سجالاً، فقد ينتصر الفرس، وقد ينتصر العرب، وقد ينتصر الروم". ويختتم المؤرخ أمين تحليله هذا قائلاً عن نتيجة الصراع، "والحق أن العرب، وإن انخذلوا في النظم السياسية والاجتماعية وما إليها من فلسفة وعلوم ونحو ذلك، فقد انتصروا في شيئين عظيمين: اللغة والدين"
والواقع أن اللغة العربية سادت واستمرت في مجموعة البلدان العربية وحدها، وهي ظاهرة نوقشت أسبابها في مجال آخر.